أجرت كرواتيا ثالث استحقاقاتها الانتخابية في أقل من عام، بإجراء انتخابات الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 29 ديسمبر 2024؛ وذلك بعد إجرائها انتخابات برلمانية مُبكرة في أبريل 2024م، ثم انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024م. وقد كان لنتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن دخول كلٍّ من زوران ميلانوفيتش ودراجان بريموراك جولة الإعادة؛ دلالات وتداعيات ودروس مُستفادة في مسار التحولات السياسية الجارية حالياً في أوروبا.

دلالات مُتباينة

حملت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في كرواتيا دلالات اتسم بعضها بالتباين؛ وذلك على نحو ما يلي:

1– عدم قدرة "ميلانوفيتش" على حسم الانتخابات من أول جولة: صبَّت مُجمل استطلاعات الرأي في الأسابيع السابقة على الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة في كرواتيا، في صالح زوران ميلانوفيتش، إلا أن أياً من المرشحين لم يكشف عن إمكانية فوزه من الجولة الأولى، في الوقت الذي كشفت فيه نتائج انتخابات الجولة الأولى عن حصول ميلانوفيتش أصوات فاقت التوقعات بنسبة 49.1%؛ حيث لم يكن بحاجة إلى أكثر من 1.1%–1.9% بحد أقصى، على النسبة التي حصل عليها ليحقق النصاب القانوني المُقدر بـ50%+1 فيفوز رسمياً بالانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، فيما كشفت باقي الأرقام عن حصول دراجان بريموراك على نسبة 19.4% في المركز الثاني بعد ميلانوفيتش، وبفارق كبير عن أقرب مُلاحقاته؛ ماريا سيلاك التي حصلت على 9.3% من الأصوات في المركز الثالث، وإيفانا كيكين التي حصلت على 8.9% في المركز الرابع. وبهذه النتيجة ضمِن كلٌّ من ميلانوفيتش وبريموراك دخول جولة الإعادة في 12 يناير الجاري.

2– تفتُّت "الأصوات النسائية" لصالح "بريموراك": حصلت الأصوات النسائية في انتخابات الرئاسة الكرواتية؛ مُمثلةً في المرشحة الرئاسية ماريا سيلاك، على 9.3% من الأصوات، والمرشحة الرئاسية إيفانا كيكين على 8.9% من الأصوات، وهو ما كشف عن ظاهرة تفتت الأصوات النسائية في انتخابات الرئاسة الكرواتية الحالية بين المُرشحتَين؛ حيث كان من الممكن، من الناحية النظرية، في حال تحالف كلٍّ من سيلاك وكيكين، أن تمثلا معاً قوة كبيرة ضد بريموراك صاحب المركز الثاني، وتحصلا على سبيل المثال على مجموع ما حصلت كل منهما عليه، وهو 9.3% + 8.9% = 18.2%، فيكون في تلك الحالة الفارق بينهما وبين بريموراك 1.2% فقط من مجموع أصوات الناخبين في الجولة الأولى؛ الأمر الذي كان سيعكس، حال حصوله، درجة تنافسية كبيرة على تلك الجولة وعلى الانتخابات برمتها، وكان سيُقدِّم حافزاً أكبر لدى عموم الناخبين لعدم الإحجام عن المشاركة.

3– إحجام نسبي عن المُشاركة في انتخابات الجولة الأولى: كشفت مُقارنة عقدها دليل الانتخابات الكرواتي (Election Guide) عن حجم مشاركة محدود في انتخابات الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الكرواتية لعام 2024، وهو ما مثَّل إحجاماً من الناخبين بتسجيل نسبة 46.3% فقط من إجمالي عدد الناخبين الذين يحق لهم التصويت البالغ عددهم نحو 3.4 مليون مواطن وفق تقديرات عام 2024. بهذه النسبة، جاءت نسبة المشاركة في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الحالية في المرتبة قبل الأخيرة من بين آخر 5 استحقاقات رئاسية في كرواتيا؛ حيث بلغت أعلى نسبة مُشاركة في الانتخابات السابقة مباشرةً في عام 2020، بـ51.2%، تلتها انتخابات عام 2005 التي بلغت نسبة المشاركة فيها 50.6%، ثم انتخابات عام 2015 بتسجيل نسبة مشاركة 47.1%. فيما جاءت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الحالية في المرتبة الرابعة وقبل الأخيرة بنسبة 46.3%، بفارق ضئيل عن انتخابات 2010 التي حازت نسبة مشاركة 44% فقط.

4– حجم إنفاق هائل ومردود "متواضع" لحملة بريموراك: كشفت مؤسسة (Dnevnik) في قائمةٍ نشرتها للمرشحين الرئاسيين في كرواتيا في 24 ديسمبر 2024، اكتساح المرشح الرئاسي دراجان بريموراك قائمة الأكثر إنفاقاً من بين جميع المرشحين على حملته الرئاسية، وبفارق كبير عن أقرب مُلاحقيه من حيث حجم الإنفاق؛ وذلك بعد أن سجَّلت حملته نحو 774 ألف يورو؛ ما يُمثل زيادة عن ثلاثة أضعاف أقرب مُلاحقيه؛ زوران ميلانوفيتش الذي سجَّل نحو 167 ألف يورو فقط.

جاءت الأرقام لتكشف حجماً لافتاً للنظر بالنسبة إلى بريموراك الذي حل ثانياً في نتائج انتخابات الجولة الأولى، ومن قبلها مجمل استطلاعات الرأي، بحيث لم تُقرِّبه من مُنافسة ميلانوفيتش، ولكن فقط وسَّعت الفارق قليلاً بينه وبين أقرب ملاحقاته؛ صاحبتَي المركزَين الثالث والرابع من حيث حجم الإنفاق: إيفانا كيكين التي أنفقت حملتها نحو 109 آلاف يورو، وماريا سيلاك التي أنفقت حملتها نحو 104 آلاف يورو فقط؛ أي أن المكسب الحقيقي حتى الآن لبريموراك نظير هذا الحجم الهائل من الإنفاق، هو ضمان دخول جولة الإعادة لمنافسة ميلانوفيتش ليس أكثر.

5– تباين أعداد المُرشحين في الانتخابات الرئاسية الكرواتية الحالية: كشف حصر حديث أجرته مؤسسة (Bild) في 12 ديسمبر 2024، عن أعداد المرشحين لمنصب الرئيس في كرواتيا في الفترة من 2005 حتى 2024؛ تبايُناً ملحوظاً في أعداد المُرشحين؛ حيث سجَّلت انتخابات عام 2005 العدد الأعلى بـ13 مرشحاً، تلتها انتخابات عام 2019 بـ11 مرشحاً، غير أن الانتخابات الرئاسية الحالية لعام 2024، شهدت انخفاضاً ملحوظاً وصل إلى 8 مرشحين فقط؛ الأمر الذي يمكن معه الوقوف على مدى التباين في أعداد المرشحين الرئاسيين في انتخابات عام 2005 و2024 على سبيل المثال، ووجود فارق يصل إلى 5 مرشحين لصالح انتخابات عام 2005.

6– تمكُّن خُمس عدد المُرشحين الرئاسيين "فقط" من تأمين "توقيعات المواطنين": أظهر توزيع نسبي حديث لمؤسسة "Vecernji" أُجرِي في شهر ديسمبر الماضي؛ تمكُّن خُمس عدد المُرشحين الرئاسيين فقط من تأمين الـ10 آلاف توقيع اللازمة للترشح، فيما سلك المرشحون الآخرون طريق التزكيات الحزبية كطريق وحيد ليتمكنوا من الترشح. المرشحون الثلاثة الذين استطاعوا الظفر بتوقيعات المواطنين هُم: زوران ميلانوفيتش، ودراجان بريموراك، وميروبولج.

المُفارقة هنا أن "ميروبولج" أتى في المرتبة الثالثة بعد ميلانوفيتش وبريموراك مباشرةً في مسألة إكمال التوقيعات المطلوبة، فيما جاء في المرتبة الخامسة في مجمل استطلاعات الرأي بعد ميلانوفيتش، وبريموراك، وماريا سيلاك، وإيفانا كيكين، وهو ما يُظهر أن هناك فجوة كبيرة مكَّنت ميروبولج من تأمين "توقيعات المواطنين" ولم تُمكنه من تأمين "أصوات الناخبين"؛ لا في استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات، ولا في نتائج الجولة الأولى، بصورة جعلت نسبته تتراوح حول 4% فقط زيادةً ونقصاً.

تداعيات مُحتملة

كان لنتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في كرواتيا تداعيات مُحتملة على جولة الإعادة وعلى المشهد السياسي برمته في كرواتيا في الفترة المقبلة؛ وذلك على نحو ما يلي:

1– انحياز تفضيلات الناخبين لصالح "ميلانوفيتش" في جولة الإعادة: أظهر استطلاع رأي حديث أُجري مطلع العام الجاري، أجرته شركة (إبسوس) لتلفزيون (Dnevnik Nova TV) عقب ظهور نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية مباشرةً؛ تعبير قطاع من الناخبين الكرواتيين عن تفضيلاتهم في جولة الإعادة، بحصول زوران ميلانوفيتش على نحو 57.7% من الأصوات المُحتملة في تلك الجولة على حساب مُنافسه دراجان بريموراك، الذي يُقدَّر حصوله على نحو 29.5% من الأصوات المحتملة في تلك الجولة، وهو ما يعكس تقدماً ملحوظاً لميلانوفيتش على حساب بريموراك وفق هاتين النسبتين.

2– شُكوك حول ترجيحات "الأصوات الضائعة" في جولة الإعادة: عبّر نحو 7.8% من المُستطلعة آراؤهم في استطلاع (إبسوس)، عقب صدور نتيجة الجولة الأولى مُباشرةً، عن اعتزامهم عدم التصويت في انتخابات جولة الإعادة، فيما لم يُحدد بعدُ نحو 5% موقفهم من المشاركة في جولة الإعادة من عدمها؛ أي أن مجموع 7.8% صرح بأنه لن يُصوت + 5% صرَّح بأنه لم يُحدد بعد موقفه = 12.8% من الأصوات المحتملة في جولة الإعادة؛ من المحتمل حسابها كأصوات ضائعة يغلب على الظن أنها ستكون لخارج ثنائية ميلانوفيتش وبريموراك، وهي نسبة لا بأس بها تُقارب السُّدس تقريباً؛ إذا ما استطاع أيٌّ من المرشَّحَين، خاصةً بريموراك، أن يحصل على أيٍّ منها فسيتبع ذلك تضييقٌ للفارق بينه وبين ميلانوفيتش، ومن ثم زيادة وتيرة المنافسة بينهما.

3– استغلال "ميلانوفيتش" الزخم السابق على تنصيب "ترامب": يُلقب بعض الساسة، الرئيس الكرواتي المُنتهية ولايته والمرشح الرئاسي الحالي زوران ميلانوفيتش بأنه "ترامب كرواتيا"، بالنظر إلى اعتماد كلٍّ منهما على "الشعبوية كسلاح" فضلاً عن انتقاد حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والدعوة المستمرة للانكفاء على الذات وتقليل الانخراط في القضايا الخارجية، وهو ما يعيه ميلانوفيتش جيداً، وبات يستغل الزخم السابق على تنصيب ترامب في العشرين من يناير 2025 من أجل كسب أرضية جديدة في سبيل بقائه على كرسي السلطة، على الرغم من كون منصب الرئيس في كرواتيا لا يُعوَّل عليه كثيراً.

كان ميلانوفيتش قد تعهَّد أثناء خطاب النصر في زغرب، بتعزيز كرواتيا استقلاليتها واعتناءها بمصالحها وإدراكها أن مصلحتها الأساسية تكمن في الاهتمام بشؤون الداخل لا المُحيط الإقليمي، وما يجري فيه من صراع بين معسكر الصين وروسيا، مع معسكر الولايات المتحدة والغرب.

4– استمرار حالة التنافس السياسي بين "ميلانوفيتش" و"بلينكوفيتش": دأب رئيس الوزراء الكرواتي الحالي أندريه بلينكوفيتش على دعم مرشح حزبه دراجان بريموراك في الانتخابات الرئاسية من أجل الفوز على ميلانوفيتش، ورحَّب بتمكُّن بريموراك من دخول جولة الإعادة بعد أن حلَّ ثانياً في نتائج انتخابات الجولة الأولى بعد ميلانوفيتش. يأتي ذلك في حين تستمر وتيرة الانقسام الداخلي على مستوى القيادة بشكل ملحوظ بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء؛ وذلك بعدما أكد "بلينكوفيتش" أن "ميلانوفيتش" ليس لديه برنامج، وأنه يُحاول جر البلاد نحو روسيا بعيداً عن الاتجاه الصحيح، على حد قوله، مُصوراً التصويت في جولة الإعادة بين ميلانوفيتش وبريموراك بأنه أقرب إلى استفتاء على مستقبل كرواتيا في الاتحاد الأوروبي.

وفي المقابل، استفاد ميلانوفيتش من سلسلة الفضائح السياسية التي أسفرت عن استقالة أو إقالة أكثر من 30 وزيراً من حزب رئيس الوزراء بلينكوفيتش بسبب الفساد، كما انتقد ميلانوفيتش، بلينكوفيتش بسبب موقفه الداعم لأوروبا، واصفاً إياه بأنه أقرب إلى "صبي" لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين؛ الأمر الذي يحتمل معه استمرار عملية الكر والفر السياسي بين ميلانوفيتش وبلينكوفيتش حتى إلى ما بعد ظهور نتائج جولة الإعادة.

5– مواصلة "ميلانوفيتش" و"بريموراك" الدعاية السلبية: جرت انتخابات الجولة الأولى في ظل ارتفاع التضخم وتفشي الفساد ونقص اليد العاملة في كرواتيا، وفي ظل برامج انتخابية تعتمد في الأساس على فكرة "الدعاية السلبية" وصولاً إلى مستوى الاستهانة والسخرية من الآخر. كان المرشحان الرئاسيان قد تبادلا خلال الحملة الانتخابية بعض الإهانة والسخرية؛ ففيما رأى ميلانوفيتش أن بريموراك الذي يكبره بعام واحد "مُزوَّر؛ كعُملة ورقية من فئة 13 يورو، ومُمل كمُباراة ودية في كُرة القدم" على حد قوله، اعتبر بريموراك في المقابل أن ميلانوفيتش "رئيس لا قيمة لديه لأي شيء، لا الوطن ولا العمل"، متهماً إياه بأنه "يستيقظ عند الساعة الحادية عشرة والنصف"، مُشيراً في ذلك إلى عدم اكتراثه لقضايا الوطن الأكثر إلحاحاً.

أمر آخر يعتمده كلا المرشحين هو كيل الاتهامات بخصوص مدى التبعية لأيٍّ من معسكرَي الصراع بين روسيا والغرب؛ ففي الوقت الذي أدان فيه ميلانوفيتش الهجوم الروسي على أوكرانيا، منتقداً في الوقت نفسه الدعم العسكري الغربي المُقدم لكييف؛ قدَّمت زغرب إلى كييف مُساعدات أغلبها عسكرية بقيمة 300 مليون يورو، واتهم على إثرها رئيسُ الوزراء أندريه بلينكوفيتش كبيرُ داعمي بريموراك، ميلانوفيتش بأنه "مؤيد لروسيا" ويقوم بـ"تدمير مصداقية كرواتيا في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو"، فيما يرى مؤيدو ميلانوفيتش أنه "الحاجز الأخير" لمنع سقوط جميع مقاليد السُّلطة بيد الاتحاد الديمقراطي الكرواتي الحاكم، الذي ينتمي إليه كل من رئيس الوزراء أندريه بلينكوفيتش والمرشح الرئاسي دراجان بريموراك؛ الأمر الذي سيكون له في مجموعِه تداعيات مُباشرة على التأثير على المزاج التصويتي للناخبين في جولة الإعادة القادمة.

ختاماً، كشفت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الكرواتية عن جُملة أمور جديرة بالمُلاحظة؛ أولها وجود حالة من الإحجام الجماهيري عن المشاركة؛ حيث سجلت ثاني أسوأ نسبة مشاركة في آخر خمسة استحقاقات رئاسية سابقة، بعد انتخابات عام 2010 الأسوأ من حيث المشاركة. وثانيها اقتراب ميلانوفيتش من الحسم من أول جولة، إلا أن هامشاً بسيطاً للغاية حال دون ذلك، فبات أمامه الفوز من خلال جولة الإعادة. أما ثالثها، فكان في الأرقام التي كشفت عنها استطلاعات الرأي السابقة على جولة الإعادة، والتي أظهرت ميلاً مُحتملاً بفارق مُريح لصالح التصويت لميلانوفيتش على حساب بريموراك، وبفارق قد يصل إلى نحو 20% من الأصوات المُحتملة في تلك الجولة.

مع أهمية الأخذ بعين الاعتبار؛ فرص وحظوظ دراجان بريموراك في جولة الإعادة؛ خاصةً إذا ما استدعَينا عاملاً يتمثل في صدارته قائمة الأعلى إنفاقاً على حملته الرئاسية من بين جميع المرشحين الحاليين؛ وهو ما يفتح الباب أمام احتمالية أن يُحقق "المال السياسي" مُفاجأة في انتخابات الرئاسة الكرواتية الحالية إذا ما استطاع بريموراك حسم جولة الإعادة لصالحه على حساب ميلانوفيتش.

دلالات نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الكرواتية